نصّ الحوار على الموقع
يمثل الصادق الحمامي أبرز باحثي الاتصال في تونس والعالم العربي فهو مؤسس البوابة العربية لعلوم الإعلام والاتصال، الموقع الأكاديمي الوحيد في المجال وهو يدرس بكلية الإعلام بالشارقة، بعد سنوات من العمل والبحث في معهد الصحافة وعلوم الإخبار بتونس...
لا يدعي الرجل أنه معارض أو صاحب مواقف سياسية بل يتمسك بصفته باحثا له مواقفه مما يجد يصرح بها أو يلمح إليها في كتاباته المنشورة في كتبه ومن بينها كتاب قيم باللغة الفرنسية حول الإعلام في تونس نشر السنة الماضية وعلى الرغم من أهميته لم يحض بالتغطية الإعلامية في العهد السابق كما ينشر ضيفنا مقالات قيمة في دوريات عربية وعالمية...
التقينا الصادق الحمامي لنسأله عن قراءته للثورة التونسية من منظور اتصالي فكان هذا الحوار:
كيف تقيم الأداء الإعلامي في هذه الفترة ما بعد ثورة 14 جانفي؟ هل هناك وعي بحرية التعبير أم كما يرى البعض ثمة حالة من الفوضى والانفلات الإعلامي؟_
أردت أن أشير في البداية إلى أن النموذج الطاغي في هذه الفترة هو الساحة العامة المفتوحة للجميع... الكل يبدي رأيه ويحلل من مواطنين وسياسيين ومحللين ومثقفين....
وهذا جميل أليس كذلك، فلطالما تقوقع الإعلام على نفسه ولم يسمح لكل من ذكرت بالتدخل والتعبير عن رأيه؟
مسألة الجمال هذه نتركها لمن يهمه الأمر ولكن هذه ليست وظائف الإعلام التقليدية التي نعرفها وتتوزع على ثلاثة أدوار: الإخبار، التثقيف، والترفيه...
وإضافة إلى هذه الأدوار المعلومة، يجمع الباحثون اليوم في كل المجتمعات الديمواقراطيّة أن الدور الرئيسي للإعلام هو تنظيم النقاش العام... والصحافي هو الذي يدير هذا النقاش العام مع احترام التعددية والتنوع والتمثيلية لكنه لا يمكنه موضوعيا أن ينفتح على الجميع أي أن يعطي الكلمة لعشرة ملاين من التونسيين. عندها يتحول النقاش إلى ضوضاء.
... وما ألاحظه في هذه الفترة هو حرص المؤسسات الإعلامية على فتح النقاش أمام الجميع وتحويل الإعلام إلى منبر حر وهذا جميل كما قلت أنت ومفهوم وطبيعي في هذه المرحلة لكن لا يجب أن يطغى على المبدأ الآخر وهو الإستقصاء والمساءلة والنقد... نحن الآن نشهد صحافة إعطاء الكلمة وتنقصنا صحافة الاستقصاء التي تذهب بعيدا في تحليلها للأمور... ومن واجب الصحافة كذلك أن تتعامل بطريقة نقدية مع كل الخطابات السياسية والفكرية.
والرهان اليوم ليس فقط الانتخابات الديمقراطية لأننا لا يمكن أن نختزل الديمقراطية في الانتخابات... الديموقراطية نموذج مجتمعي يقوم على الاعتراف بتعددية المجتمع السياسية والثقافية والفكرية وعلى تنوع أنماط الحياة في إطار الحريات الفردية والجماعية. الأغلبية يمكن أن تطبق برنامجها الاقتصادي والسياسي لكن لا يمكن لها لأن تفرض نموذجها الثقافي على الناس. الديموقراطية هي نهاية الوصاية الفكرية والسياسية.
نحن الآن في مرحلة فريدة في تاريخ العالم العربي فالمجتمع مقبل على تأسيس نفسه وعلى صياغة عقد اجتماعي جديد، ولذلك فدور الإعلام الحقيقي هو تنظيم النقاش الاجتماعي (الجماعي) العام مع احترام مبدأ التعددية وحماية التنوع وأخلاقيات النقاش ورفض فكرة الإقصاء والابتعاد عن الخطاب الديماغوجي والعنف الرمزي...
لا مانع إذن في رأيك من استضافة الإسلاميين في منابرنا الإعلامية احتراما للتعددية ورفضا لفكرة الإقصاء؟
الإسلامي هو في نهاية الأمر مواطن تونسي، وحق المواطنة هذا يفرض ظهوره في المجال العام، والإعلام لا بد أن يحترم الآخر أيا كان هذا الآخر ولا يقصيه من النقاش، على شرط أن يحترم الجميع بما في ذلك الإسلاميين حق الآخرين في التفكير والتعبير واختيار نمط حياته بكل حرية. لا حق لأحد أن يحدد لي كيف أكون مهما كانت قدسية المرجعية التي يتحدث بها.
حتى وإن استغل الإسلامي المجال العمومي للتعبئة الجماهيرية في سبيل إرساء حكم إسلامي في تونس؟
حتى إن أراد الإسلامي أن يفعل ذلك فهذا مستحيل...
ما هي ضماناتك؟
ضماني الأول هي ثقافة الحرية عند التونسي وهي كافية جدا لتحميه من الخطر الأصولي... أثبت التونسي أنه متشبع بثقافة الحرية وبالتالي فلن يسمح بالالتفاف على آليات هذه الحرية... كما أن الثورة عمليا لم تنجزها النخبة وبالتالي لا يمكن لأحد أن يفرض نموذجا مجتمعيا وسياسيا. النموذج الذي أتفق عليه التونسيون ضمنيا هو الديموقراطية وقيمها.
في رأيك دكتور هل الصحافيون قادرون في المرحلة الجديدة على التخلص من إرهاصات القمع والتعامل بوعي مع مجال حرية التعبير؟
أعتقد أن هناك عددا كبيرا من الكفاءات الإعلامية القادرة والجاهزة لتحمل مهماتها، لأن النظام السابق أفسد المؤسّسات ولكنه لم يفسد المجتمع... وخلال متابعتي للبرامج التلفزية في هذه المرحلة أعجبت كثيرا بقدرة بعض الصحافيين الرياضيين والمتخصصين في البرامج الثقافية على إدارة حوارات سياسية وكانوا أكثر تمكنا من عملهم في الرياضة...
وهذا يعني أن تكوين معهد الصحافة بقي عند الكثيرين إمكانا كامنا فيهم ولما وجد الفرصة لتفعيله كان في حجم الانتظارات...
ولكن الرأي العام يرى أن معهد الصحافة وعلوم الأخبار غير قادر على تكوين كفاءات صحافية؟
هذا غير صحيح... معهد الصحافة كان كبش الفداء لتبرير عجز المؤسسات التي أفسدها النظام... ولكن هناك اليوم صحافيون تخرجوا في هذا المعهد ويعملون بكل مهنية في تونس وخارجها.
تعترض على فكرة أن ثورة الأحرار التونسية قادها مجتمع من داخل الفايس بوك... لماذا؟
أولا الثورة لا تقودها الآلات بل ينجزها الناس الشارع... وثانيا الوقائع الأولى لثورة الأحرار التونسية انطلقت من سيدي بوزيد وتالة والقصرين، وهذه المناطق مقصية من الحداثة ولا تستخدم الفايس بوك بشكل كبير... (الفقراء ثاروا في القصرين لأنهم كانوا على هامش التحديث بما في ذلك التكنولوجيا). لا يمكن اختزال الثورة في أحدى وسائلها، هذه نظرة تبسيطية.
هذه الثورة كانت نتيجة اندماج بين الوسائط القديمة والجديدة، كما أن الفايس بوك في تلك الفترة كان بالنسبة لأغلبية التونسيين فضاء للنشاط الثقافي والترفيهي والاجتماعي ، كما أن عددا من الصفحات السياسية كانت محجوبة وبالتالي فلا يمكن القول إن الفايس بوك هو الذي قاد الثورة لأن هذا يعني بشكل أو بآخر أن الثورة افتراضية...
_ ولكن لو بقيت الاحتجاجات في سيدي بوزيد وتالة والقصرين لما أنتجت هذه الثورة التي أسقطت النظام البائد، ولكن تداول أخبار ما يحدث في هذه المناطق على الفايس بوك في ظل التعتيم الإعلامي على الأحداث من قبل وسائل الإعلام التونسية هو الذي وحد الصفوف؟
دور الفايس بوك يقف عند حدود التنسيق (المظاهرات على سبيل المثال)، وفي المرحلة الأولى كان دور القنوات التلفزية وخاصة الجزيرة كبيرا في إخبار التونسيين من خلال متابعة الأحداث وعرض بعض الفيديوهات المسربة...
في المقابل ما الدور الذي لعبته قنواتنا التلفزيونية؟
لعبت دورا كبيرا جدا في تعزيز ما أسميه التأويل المضاد، وكانت دليلا على الطابع الكلياني للنظام السابق... نجحت الثورة التونسية في إسقاط سلطة الإعلام، ولذلك لم يكن لقنواتنا التلفزيونية أي دور في عملية الضبط الاجتماعي بل حولت المجتمع إلى صندوق أسود... احتكار النظام السابق للإعلام أدى إلى تعطيل قدرات هذا الإعلام في التأثير. إنها مفارقة عجيبة. حجب الإعلام المجتمع لكن هذا الحجب منع النظام من النظر إلى الواقع. وأنقلب السحر على الساحر.
كيف ترى المشهد الإعلامي في المرحلة القادمة؟ هل أنت مع الرأي الذي يدعو إلى انتخاب المشرفين على المؤسسات الإعلامية مثلا؟
لا طبعا... الديمقراطية لا تعني أبدا انتخابات فحسب، وعلينا أن ننظر إلى تجارب الآخرين فلن نبتدع مفهوما جديدا للديمقراطية في مجال تسيير المؤسسات الإعلامية العمومية، لأن هذه المؤسسات ليست ملكا للصحفيين بل للمجتمع برمته. وأريد أن أؤكد هنا على أهمية تكليف المهنيين بإدارة المؤسسات الإعلامية. في فرنسا أو بريطانيا لا نجد باحثا واحدا يدير مؤسسة إعلامية.
لا بد أيضا من تنظيم القطاع الإعلامي بوجود هيئة ممثلة لكل التيارات السياسية ويتحكم فيها ويحاسبها البرلمان...
يجب أن ننظر إلى التجارب العالمية لتنظيم القطاع الإعلامي في تونس، فـ البي بي سي وهي أهم مؤسسة إعلامية عمومية في العالم تخضع إلى كراس شروط وتحترم التنوع السياسي، والأمر ينسحب على الإعلام الجهوي...
ولا بد أولا بتنظيم قياس المشاهدة بكل جدية وموضوعية وبطرق علمية... ففي الولايات المتحدة أكثر الدول ليبرالية في العالم نجد تنظيما صارما لقياس جمهور الإذاعة والتلفزيون حتى لا تتلاعب به المصالح الخاصة.
أنت مع حل وكالة تونس للاتصال الخارجي؟
لا رأي لي في الأمر لأنه يخضع إلى قرار سياسي... ولكن أعتقد أنه لا بد من وجود مؤسسة تدير للاتصال العمومي للدولة تخضع إلى مقاييس معلومة ومقننة في مستوى أهدافها وآليات عملها كما هو الحال في فرنسا مثلا.
هل سيكون لك دور في المشهد الإعلامي التونسي الجديد؟
_ لا... كنت باحثا وسأظل دائما باحثا...
هل تنحاز إلى اسم ما تراه مناسبا للحكم في تونس الجديدة؟
سأنتخب من أراه مناسبا... وحق الانتخاب يفرض السرية...
هل سبق وانتخبت بن علي؟
لا... صدقيني لم أكن أشارك في الانتخاب أصلا...
رأيك في الأصوات التي تنادي اليوم بمحاسبة الصحافيين على تواطئهم وإن بالصمت مع النظام البائد؟
_ لست مع هذه الأصوات لأن المحاسبة يجب أن تتجه أولا للفساد والقتل... أما الصحافيون فهم ضحايا النظام البائد وهم يشتغلون في مؤسسات أفسدها هذا النظام بتعنته وقمعه...
في رأيك ما هو مصير صحافيي مؤسسات حزب التجمع في هذه المرحلة؟
إذا نظرنا إلى التجارب الديموقراطية نلاحظ بكل وضوح ضمور الصحافة الحزبية بل اندثارها أصلا كما هو الحال في الولايات المتحدة. أنا لست ضد الصحافة الحزبية لكن أعتقد أن المجال العام الديموقراطي يحتاج أولا إلى صحافة مستقلة ومهنية تنير المواطنين بعيدا عن منطق التعبئة. لا يعني هذا إلغاء الصحافة الحزبية التي يجب أن تتكيف مع الوضع الجديد.
هل تنتمي إلى تيار سياسي محدد؟
لا... ولكن أدافع منذ سنوات بما في ذلك في كتاباتي على قيم الحداثة الثقافية والسياسية.
أنتم الجامعيون تلتزمون بالحياد، لا رأي لكم عند البعض كما أن مواقف جلكم السياسية مبهمة وسرية أفلا يضعف هذا دور النخب داخل المجال الاجتماعي؟
_ الكثير من الكلام قلته في بحوثي ودراساتي ومقالاتي في الصحف التونسية والعربية والأجنبية وفي البوابة العربية لعلوم الإعلام والاتصال التي أسستها بوسائلي الخاصّة ويشارك فيها أكثر من خمسين باحثا ونشرت حتى الآن أكثر من 150 دراسة علمية... الدور الحقيقي للباحث هو إنتاج المعرفة. شخصيا نشرت العديد من البحوث باللغتين العربية والفرنسية وهي متوفرة على الإنترنت وتناولت قضايا متصلة بالواقع التونسي لكن الناس لا تقرأ. بعض الباحثين نشروا دراسات نقدية وجريئة جدا، العربي شويخة على سبيل المثال مثلا كتب بحوثا نقدية جريئة جدا ولم يمنعه أحد...
ربما لأن لا أحد يقرؤها؟
صحيح... ولكن لا يطعن ذلك في قيمة البحوث التي أنتجناها ولكن النظام السابق لم يكن قائما ومنفتحا على المعرفة.
يمثل الصادق الحمامي أبرز باحثي الاتصال في تونس والعالم العربي فهو مؤسس البوابة العربية لعلوم الإعلام والاتصال، الموقع الأكاديمي الوحيد في المجال وهو يدرس بكلية الإعلام بالشارقة، بعد سنوات من العمل والبحث في معهد الصحافة وعلوم الإخبار بتونس...
لا يدعي الرجل أنه معارض أو صاحب مواقف سياسية بل يتمسك بصفته باحثا له مواقفه مما يجد يصرح بها أو يلمح إليها في كتاباته المنشورة في كتبه ومن بينها كتاب قيم باللغة الفرنسية حول الإعلام في تونس نشر السنة الماضية وعلى الرغم من أهميته لم يحض بالتغطية الإعلامية في العهد السابق كما ينشر ضيفنا مقالات قيمة في دوريات عربية وعالمية...
التقينا الصادق الحمامي لنسأله عن قراءته للثورة التونسية من منظور اتصالي فكان هذا الحوار:
كيف تقيم الأداء الإعلامي في هذه الفترة ما بعد ثورة 14 جانفي؟ هل هناك وعي بحرية التعبير أم كما يرى البعض ثمة حالة من الفوضى والانفلات الإعلامي؟_
أردت أن أشير في البداية إلى أن النموذج الطاغي في هذه الفترة هو الساحة العامة المفتوحة للجميع... الكل يبدي رأيه ويحلل من مواطنين وسياسيين ومحللين ومثقفين....
وهذا جميل أليس كذلك، فلطالما تقوقع الإعلام على نفسه ولم يسمح لكل من ذكرت بالتدخل والتعبير عن رأيه؟
مسألة الجمال هذه نتركها لمن يهمه الأمر ولكن هذه ليست وظائف الإعلام التقليدية التي نعرفها وتتوزع على ثلاثة أدوار: الإخبار، التثقيف، والترفيه...
وإضافة إلى هذه الأدوار المعلومة، يجمع الباحثون اليوم في كل المجتمعات الديمواقراطيّة أن الدور الرئيسي للإعلام هو تنظيم النقاش العام... والصحافي هو الذي يدير هذا النقاش العام مع احترام التعددية والتنوع والتمثيلية لكنه لا يمكنه موضوعيا أن ينفتح على الجميع أي أن يعطي الكلمة لعشرة ملاين من التونسيين. عندها يتحول النقاش إلى ضوضاء.
... وما ألاحظه في هذه الفترة هو حرص المؤسسات الإعلامية على فتح النقاش أمام الجميع وتحويل الإعلام إلى منبر حر وهذا جميل كما قلت أنت ومفهوم وطبيعي في هذه المرحلة لكن لا يجب أن يطغى على المبدأ الآخر وهو الإستقصاء والمساءلة والنقد... نحن الآن نشهد صحافة إعطاء الكلمة وتنقصنا صحافة الاستقصاء التي تذهب بعيدا في تحليلها للأمور... ومن واجب الصحافة كذلك أن تتعامل بطريقة نقدية مع كل الخطابات السياسية والفكرية.
والرهان اليوم ليس فقط الانتخابات الديمقراطية لأننا لا يمكن أن نختزل الديمقراطية في الانتخابات... الديموقراطية نموذج مجتمعي يقوم على الاعتراف بتعددية المجتمع السياسية والثقافية والفكرية وعلى تنوع أنماط الحياة في إطار الحريات الفردية والجماعية. الأغلبية يمكن أن تطبق برنامجها الاقتصادي والسياسي لكن لا يمكن لها لأن تفرض نموذجها الثقافي على الناس. الديموقراطية هي نهاية الوصاية الفكرية والسياسية.
نحن الآن في مرحلة فريدة في تاريخ العالم العربي فالمجتمع مقبل على تأسيس نفسه وعلى صياغة عقد اجتماعي جديد، ولذلك فدور الإعلام الحقيقي هو تنظيم النقاش الاجتماعي (الجماعي) العام مع احترام مبدأ التعددية وحماية التنوع وأخلاقيات النقاش ورفض فكرة الإقصاء والابتعاد عن الخطاب الديماغوجي والعنف الرمزي...
لا مانع إذن في رأيك من استضافة الإسلاميين في منابرنا الإعلامية احتراما للتعددية ورفضا لفكرة الإقصاء؟
الإسلامي هو في نهاية الأمر مواطن تونسي، وحق المواطنة هذا يفرض ظهوره في المجال العام، والإعلام لا بد أن يحترم الآخر أيا كان هذا الآخر ولا يقصيه من النقاش، على شرط أن يحترم الجميع بما في ذلك الإسلاميين حق الآخرين في التفكير والتعبير واختيار نمط حياته بكل حرية. لا حق لأحد أن يحدد لي كيف أكون مهما كانت قدسية المرجعية التي يتحدث بها.
حتى وإن استغل الإسلامي المجال العمومي للتعبئة الجماهيرية في سبيل إرساء حكم إسلامي في تونس؟
حتى إن أراد الإسلامي أن يفعل ذلك فهذا مستحيل...
ما هي ضماناتك؟
ضماني الأول هي ثقافة الحرية عند التونسي وهي كافية جدا لتحميه من الخطر الأصولي... أثبت التونسي أنه متشبع بثقافة الحرية وبالتالي فلن يسمح بالالتفاف على آليات هذه الحرية... كما أن الثورة عمليا لم تنجزها النخبة وبالتالي لا يمكن لأحد أن يفرض نموذجا مجتمعيا وسياسيا. النموذج الذي أتفق عليه التونسيون ضمنيا هو الديموقراطية وقيمها.
في رأيك دكتور هل الصحافيون قادرون في المرحلة الجديدة على التخلص من إرهاصات القمع والتعامل بوعي مع مجال حرية التعبير؟
أعتقد أن هناك عددا كبيرا من الكفاءات الإعلامية القادرة والجاهزة لتحمل مهماتها، لأن النظام السابق أفسد المؤسّسات ولكنه لم يفسد المجتمع... وخلال متابعتي للبرامج التلفزية في هذه المرحلة أعجبت كثيرا بقدرة بعض الصحافيين الرياضيين والمتخصصين في البرامج الثقافية على إدارة حوارات سياسية وكانوا أكثر تمكنا من عملهم في الرياضة...
وهذا يعني أن تكوين معهد الصحافة بقي عند الكثيرين إمكانا كامنا فيهم ولما وجد الفرصة لتفعيله كان في حجم الانتظارات...
ولكن الرأي العام يرى أن معهد الصحافة وعلوم الأخبار غير قادر على تكوين كفاءات صحافية؟
هذا غير صحيح... معهد الصحافة كان كبش الفداء لتبرير عجز المؤسسات التي أفسدها النظام... ولكن هناك اليوم صحافيون تخرجوا في هذا المعهد ويعملون بكل مهنية في تونس وخارجها.
تعترض على فكرة أن ثورة الأحرار التونسية قادها مجتمع من داخل الفايس بوك... لماذا؟
أولا الثورة لا تقودها الآلات بل ينجزها الناس الشارع... وثانيا الوقائع الأولى لثورة الأحرار التونسية انطلقت من سيدي بوزيد وتالة والقصرين، وهذه المناطق مقصية من الحداثة ولا تستخدم الفايس بوك بشكل كبير... (الفقراء ثاروا في القصرين لأنهم كانوا على هامش التحديث بما في ذلك التكنولوجيا). لا يمكن اختزال الثورة في أحدى وسائلها، هذه نظرة تبسيطية.
هذه الثورة كانت نتيجة اندماج بين الوسائط القديمة والجديدة، كما أن الفايس بوك في تلك الفترة كان بالنسبة لأغلبية التونسيين فضاء للنشاط الثقافي والترفيهي والاجتماعي ، كما أن عددا من الصفحات السياسية كانت محجوبة وبالتالي فلا يمكن القول إن الفايس بوك هو الذي قاد الثورة لأن هذا يعني بشكل أو بآخر أن الثورة افتراضية...
_ ولكن لو بقيت الاحتجاجات في سيدي بوزيد وتالة والقصرين لما أنتجت هذه الثورة التي أسقطت النظام البائد، ولكن تداول أخبار ما يحدث في هذه المناطق على الفايس بوك في ظل التعتيم الإعلامي على الأحداث من قبل وسائل الإعلام التونسية هو الذي وحد الصفوف؟
دور الفايس بوك يقف عند حدود التنسيق (المظاهرات على سبيل المثال)، وفي المرحلة الأولى كان دور القنوات التلفزية وخاصة الجزيرة كبيرا في إخبار التونسيين من خلال متابعة الأحداث وعرض بعض الفيديوهات المسربة...
في المقابل ما الدور الذي لعبته قنواتنا التلفزيونية؟
لعبت دورا كبيرا جدا في تعزيز ما أسميه التأويل المضاد، وكانت دليلا على الطابع الكلياني للنظام السابق... نجحت الثورة التونسية في إسقاط سلطة الإعلام، ولذلك لم يكن لقنواتنا التلفزيونية أي دور في عملية الضبط الاجتماعي بل حولت المجتمع إلى صندوق أسود... احتكار النظام السابق للإعلام أدى إلى تعطيل قدرات هذا الإعلام في التأثير. إنها مفارقة عجيبة. حجب الإعلام المجتمع لكن هذا الحجب منع النظام من النظر إلى الواقع. وأنقلب السحر على الساحر.
كيف ترى المشهد الإعلامي في المرحلة القادمة؟ هل أنت مع الرأي الذي يدعو إلى انتخاب المشرفين على المؤسسات الإعلامية مثلا؟
لا طبعا... الديمقراطية لا تعني أبدا انتخابات فحسب، وعلينا أن ننظر إلى تجارب الآخرين فلن نبتدع مفهوما جديدا للديمقراطية في مجال تسيير المؤسسات الإعلامية العمومية، لأن هذه المؤسسات ليست ملكا للصحفيين بل للمجتمع برمته. وأريد أن أؤكد هنا على أهمية تكليف المهنيين بإدارة المؤسسات الإعلامية. في فرنسا أو بريطانيا لا نجد باحثا واحدا يدير مؤسسة إعلامية.
لا بد أيضا من تنظيم القطاع الإعلامي بوجود هيئة ممثلة لكل التيارات السياسية ويتحكم فيها ويحاسبها البرلمان...
يجب أن ننظر إلى التجارب العالمية لتنظيم القطاع الإعلامي في تونس، فـ البي بي سي وهي أهم مؤسسة إعلامية عمومية في العالم تخضع إلى كراس شروط وتحترم التنوع السياسي، والأمر ينسحب على الإعلام الجهوي...
ولا بد أولا بتنظيم قياس المشاهدة بكل جدية وموضوعية وبطرق علمية... ففي الولايات المتحدة أكثر الدول ليبرالية في العالم نجد تنظيما صارما لقياس جمهور الإذاعة والتلفزيون حتى لا تتلاعب به المصالح الخاصة.
أنت مع حل وكالة تونس للاتصال الخارجي؟
لا رأي لي في الأمر لأنه يخضع إلى قرار سياسي... ولكن أعتقد أنه لا بد من وجود مؤسسة تدير للاتصال العمومي للدولة تخضع إلى مقاييس معلومة ومقننة في مستوى أهدافها وآليات عملها كما هو الحال في فرنسا مثلا.
هل سيكون لك دور في المشهد الإعلامي التونسي الجديد؟
_ لا... كنت باحثا وسأظل دائما باحثا...
هل تنحاز إلى اسم ما تراه مناسبا للحكم في تونس الجديدة؟
سأنتخب من أراه مناسبا... وحق الانتخاب يفرض السرية...
هل سبق وانتخبت بن علي؟
لا... صدقيني لم أكن أشارك في الانتخاب أصلا...
رأيك في الأصوات التي تنادي اليوم بمحاسبة الصحافيين على تواطئهم وإن بالصمت مع النظام البائد؟
_ لست مع هذه الأصوات لأن المحاسبة يجب أن تتجه أولا للفساد والقتل... أما الصحافيون فهم ضحايا النظام البائد وهم يشتغلون في مؤسسات أفسدها هذا النظام بتعنته وقمعه...
في رأيك ما هو مصير صحافيي مؤسسات حزب التجمع في هذه المرحلة؟
إذا نظرنا إلى التجارب الديموقراطية نلاحظ بكل وضوح ضمور الصحافة الحزبية بل اندثارها أصلا كما هو الحال في الولايات المتحدة. أنا لست ضد الصحافة الحزبية لكن أعتقد أن المجال العام الديموقراطي يحتاج أولا إلى صحافة مستقلة ومهنية تنير المواطنين بعيدا عن منطق التعبئة. لا يعني هذا إلغاء الصحافة الحزبية التي يجب أن تتكيف مع الوضع الجديد.
هل تنتمي إلى تيار سياسي محدد؟
لا... ولكن أدافع منذ سنوات بما في ذلك في كتاباتي على قيم الحداثة الثقافية والسياسية.
أنتم الجامعيون تلتزمون بالحياد، لا رأي لكم عند البعض كما أن مواقف جلكم السياسية مبهمة وسرية أفلا يضعف هذا دور النخب داخل المجال الاجتماعي؟
_ الكثير من الكلام قلته في بحوثي ودراساتي ومقالاتي في الصحف التونسية والعربية والأجنبية وفي البوابة العربية لعلوم الإعلام والاتصال التي أسستها بوسائلي الخاصّة ويشارك فيها أكثر من خمسين باحثا ونشرت حتى الآن أكثر من 150 دراسة علمية... الدور الحقيقي للباحث هو إنتاج المعرفة. شخصيا نشرت العديد من البحوث باللغتين العربية والفرنسية وهي متوفرة على الإنترنت وتناولت قضايا متصلة بالواقع التونسي لكن الناس لا تقرأ. بعض الباحثين نشروا دراسات نقدية وجريئة جدا، العربي شويخة على سبيل المثال مثلا كتب بحوثا نقدية جريئة جدا ولم يمنعه أحد...
ربما لأن لا أحد يقرؤها؟
صحيح... ولكن لا يطعن ذلك في قيمة البحوث التي أنتجناها ولكن النظام السابق لم يكن قائما ومنفتحا على المعرفة.
0 commentaires:
Enregistrer un commentaire