4/09/2011

المدونات : نحو "مجتمع الرأي" ؟

د. الصادق الحمامي
صدر هذا المقال في مجلة المنبر الجامعي، جامعة الشارقة عدد أكتوبر 2010
يمثل التدوين blogging أحدّ أهم الممارسات الجديدة التي تشكّلت في الفضاء الإلكتروني في السنوات الأخيرة. وتشير دراسة حديثة أنجزتها مؤسسة  Nielsen المتخصّصة في مجال التسويق والإعلان أن أكثر من ثلثي مستخدمي الشبكة يستخدمون مواقع الشبكات الاجتماعية والمدونات التي أضحت تشكّل بعدا مركزيا  للحياة الافتراضية  الفردية والجماعية. و يشير التقرير العربي للتنمية الثقافية  الذي أصدرته  مؤسسة الفكر العربي أن عدد المدونات العربية تقدّر بـ490 ألف مدونة تمثل 0.7%  من المدونات العالمية وتستقطب مصر  31% من مجموع المدونات العربية.


 وبالتوازي مع تعاظم استخداماته، تنوّعت مضامين التدوين (نص، فيديو..) وتعدّدت الفئات الاجتماعية التي تمارسه (أفراد مغمورون، نخب، سياسيون، صحفيون، باحثون، مؤسسات اقتصادية، هيئات حكوميّة...) كما تكاثرت التكنولوجيات التي يوظفها المدونون (إنترنت، هاتف جوّال...). وشهدت السنوات الأخيرة أشكالا جديدة من التدوين لعلّ أهمها ما يسمى بالتدوين المقتضب Microblogging التي يتيحه منصات مثل twitter.
والمدوّنة في شكلها الأوّل نوع من مواقع الوب يتضمن نصوصا يكتبها أفراد عاديون حول مسائل ذاتية وحميمة أو عامّة تتصل بقضايا سياسية أو اجتماعية أو فنّية.... ويمكن للمدوّن أن ينشر كذلك صورا أو مقاطع فيديو أو رسوما كاريكاتورية.  وتمثّل التفاعلية بعدا هاما في التدوين، إذ يمكن لقارئ المدونة أن يعلّق على ما يكتبه المدوّن فتتحّول المدوّنة على هذا النحو إلى فضاء لتبادل الآراء والجدل والنقاش. وينشأ المدوّن مدوّنته في منصّات متخصّصة (كالتي تتيحها بوابة مكتوب-ياهو ) وهي على هذا النحو مرتبطة بمدونات أخرى تتفاعل باستمرار في إطار ما يسمى مجتمعات التدوين blogosphere
وللتدوين أبعاد عديدة اجتماعية وسياسية وثقافيّة وإعلامية.  فالتدوين يحيل أولا إلى تعاظم مكانة الخطاب الفردي والذاتي في المجال العمومي، إذ أنه يشكّل نوعا جديدا من الكتابة يمارسها الأفراد المغمورون تتجلّى من خلالها عوالمهم الذاتية البسيطة. وبهذا المعنى فإن التدوين كتابة لا تخضع بالضرورة إلى قواعد معلومة يكتسبها المدوّن من خلال التجربة والتعلّم. فالمدونة يمكن أن تتضمن ثرثرة حول أحداث عاشها المدوّن أو آراء حول أحداث سياسية أو مواقف من قضايا فكريّة. كما يمكن للمدون أن يتخفّى وراء اسم مستعار.هكذا يتيح غياب القواعد الثابتة في مستوى الكتابة والسهولة التقنية لإنشاء المدونات وإدارتها إمكانات جديدة للأفراد تسمح لهم بالحضور من خلال الكلمة والصورة والفيديو  في   مجال عمومي احتكرته تاريخيا النخب التي كانت تستأثر بوسائل  التعبير.  وعلى هذا النحو يمكن القول أن المدونات تمثل مؤشرا لتحول في أنماط الاتصال. فالمدونات والشبكات الاجتماعية والمواقع التعاضدية (على غرار ويكبيديا) تساهم في تشكيل مجال تواصلي تشاركي وتفاعلي وغير نخبوي يختلف عن المجال الذي شكّلته وسائط الإعلام  الجماهيرية والذي اتسم بطابعه النخبوي والعمودي.
ومن هذا المنظور فإن التدوين يمكن أن يمثّل مجالا ينافس من خلاله الأفراد المغمورون النخب الإعلامية التقليدية في مستوى نشر المعلومات حول الأحداث وإنشاء فضاءات النقاش ذات العلاقة بالشأن العام. هكذا أفرزت هذه الوظيفة الجديدة الإخبارية نوعا جديدا من الممارسة الإعلامية يوصف بصحافة المواطن citizen journalism  يعتبره البعض إعلاما بديلا يكشف عن ما تعمل وسائط الإعلام  الكلاسيكية على إخفاءه.  ونظرا لتأثيراتها على الممارسة الإعلامية عملت وسائط الإعلام على احتواء ظاهرة التدوين من خلال إنشاء منصات للتدوين يتحول بفضلها جمهورها إلى كتّاب على غرار الصحفيين ينشرون الأخبار ويعلّقون على الأحداث.
ومن علامات تعاظم ظاهرة التدوين كذلك تنوّع استخداماته في كل المجالات، إذ أصبح التدوين آلية تواصلية توظّفها المؤسّسات الاقتصادية والهيئات الحكومية لتعزيز تفاعلها مع الجمهور العريض، إضافة إلى الآليات الكلاسيكية كالعلاقات العامة والترويج (أنظر على سبيل المثال مدونة بوابة الحكومة المصرية ). كما تستخدم النخب السياسية المدونات للتواصل المباشر مع الجمهور خاصة أثناء الحملات الانتخابية على غرار الرئيس الأمريكي باراك أوباما (أنظر مدونة البيت الأبيض ). هكذا يساهم التدوين في تجديد أنماط الاتصال والتسويق السياسي لأنه يتيح انفتاح النخب السياسية على مشاغل المجتمع.
وللاستخدامات السياسية للمدونات أهمية كبرى في العالم العربي إذ تيسّر المدونات مشاركة الأفراد في الشأن السياسي. هكذا تمثل المدونات مجالا تتشكّل داخله وتتجلّى بفضله الاتجاهات والمواقف السياسيّة والفكريّة، أي بتعبير آخر الرأي العام. وفي هذا الاتجاه تقوم العديد من وسائل الإعلام  بعرض تقارير دورية حول أهم القضايا والمسائل التي تناقشها المدوّنات اعترافا منها  بأن المدونات أضحت تمثل أحد الفضاءات التي يتجلّى فيها هذا الرأي العام العربي الناشئ (أنظر ركن نقاش المدونين في ملحق دنيا لصحيفة الاتحاد).
وفي المجال الأكاديمي يستخدم الباحثون التدوين لعرض نتائج بحوثهم والتواصل مع الباحثين والمجتمع البحثي الذي ينتمون إليه، إذ تمثّل المدونات مصادر معلومات هامة حول نشاط البحث العلمي تتيح لأصناف عديدة من الجمهور (كالصحفيين المتخصّصين والطلاب والأوساط الاقتصادية والمهنية) متابعة التطورات العلمية في مجال بحثي ما. ويأخذ التدوين الأكاديمي أشكالا متعددة جماعية أو فردية، إذ يمكن أن ينشأ الباحث مدونته في منصات التدوين الجماهيرية أو في منصات متخصّصة على غرار  منصة researchers blogging    التي تتيح للباحثين التفاعل مع نظرائهم من خلال الكتابة في موضوع يتعلق بالبحث العلمي أو بالتعليق على دراسة أكاديمية. وفي حالات أخرى يمثل التدوين الأكاديمي مجالا للتفاعل بين الباحث وبيئته القريبة (كما تبين ذلك تجريه منصّة التدوين التي أحدثتها جامعة الملك سعود ). وفي المجال التعليمي تستخدم المؤسسات التعليمية المدونات للتواصل مع الأولياء وللتعريف بالمؤسسة التعليمية ونشاطاتها ولإتاحة فرص التعبير للطلاب وعرض أعمالهم.
نقد التدوين
يمكن النظر إلى التدوين باعتباره رمزا لعالم جديد يعلي من قيم المشاركة والتواصل والتفاعل والحوار والحريّة. وبهذا المعنى يؤسس التدوين لتواصل مفتوح كما أنه يتيح أفاقا رحبة لفئات اجتماعية هامشية كانت غير معنية بالمشاركة في الشأن العام وقاصرة عن الحضور في المجال العمومي. فالتدوين يحيل إلى ظهور ما يمكن أن نطلق عليه "مجتمع الرأي" يحتلّ فيه التعبير مكانة هامّة حيث للجميع رأي يعطيه في كل المسائل وإمكانات تسمح له بإشاعة أفكاره. وبالمقابل يمكن أيضا أن نفكّر في التدوين من منظور مختلف لأن الأشكال التواصليّة الجديدة لا تمثّل دائما مجالا مثاليا، إذ لا يلتزم المدونون بالضرورة بالأخلاق التواصلية فيتحوّل التدوين عندئذ إلى مجال للثلب ولنشر الإشاعات والأخبار الزائفة وللدعاية المقنّعة. كما يمكن أن يغترّ المدون بهذه الحريات الجديدة التي تتيحها الشبكة معتقدا أن بإمكانه التحرّر (من خلال اختفاءه وراء الاسم المستعار مثلا) من الضوابط القانونية والمبادئ الأخلاقية الضرورية للنقاش والحوار في المجال العمومي. كما لا تحظى كل المدونات بالشعبية المأمولة فيتحول الكثير منها إلى مجرّد نصوص بلا قرّاء. ولا يمكن أن نغفل من جهة أخرى عن  المصالح التجاريّة المرتبطة بالتدوين التي تحتضنه منصّات تديرها شركات الإنترنت الكبرى (على غرار غوغل) التي حوّلت المدونين (ونصوصهم وآرائهم ومشاعرهم)  وقرائهم إلى أهداف لإعلان من  طراز جديد يطاردها بشكل دقيق في عوالمهم الذاتيّة (وفق تقنيات الشخصنة (customization. وأخيرا فإن التدوين يمكن أن يخلق كذلك لدى المدونين وهم المشاركة والتفاعل في مجال تواصلي يمكن أن يشتغل أيضا، كما  العالم الاجتماعي، وفق منطق القوة والتنافر.

0 commentaires:

Enregistrer un commentaire