7/10/2011

المدوّنون التونسيّون: "مثقفون جدد" أم صحفيّون ؟

 مقال صدر بجريدة الصحافة  يوم الأحد 10 -07-2011

إزدهرت في السنوات الأخيرة ظاهرة المدوّنات في تونس التي أعلنت، قبل الشبكات الإجتماعية، عن إستخدامات جديدة للإنترنت لم يكن النظام قادرا على فهم دلالاتها لأنه كان يتمثّل الشبكة من منظورسلطوي ووظيفي. فالإنترنت بالنسبة إليه أداة لتحسين الإدارة الاتصالية وتطوير التعليم عن بعد وتعزيز التجارة الإلكترونية
.
المدونون مثقفون من طراز جديد ؟
لم يكن التدوين بالنسبة إلى النظام سوى إستخداما شاذا لا بدّ من تطويقه. وفي المقابل كان الفضاء التدويني التونسي يتشكّل معلنا عن تغيير في أنماط التواصل في المجال العمومي. فالتدوين ممارسة فردية وجماعية في آن والمدونة فضاء شخصي يحتضن نوعا من الكتابة الذاتية تحتاج قدرا من الإستقلالية  ومن  الإحساس بالفردية. لكن هذه الفضاء الشخصي ليس إستعراضيا محضا بل يعكس رغبة في التقاسم  يجسّدها التواصل مع قرّاء المدوّنة وأصدقائها. ولا يكشف التدوين عن العوالم الذاتية فحسب بل يؤشّر كذلك إلى أنماط جديدة من المشاركة في الشأن العام. هكذا يحيل التدوين على توزيع جديد لكفاءة الكلام في المجال العمومي وعن نهاية ثنائية السلطة والمثقف. فالقدرة على التعبير في المجال العمومي بواسطة الخطاب ورغبة التأثير في معتقدات الآخرين يشكّلان حسب دوبريه المثقف بما أنه  "قوّة إجتماعية"، لأن قوّة الأفكار ترتبط  كذلك بالوسائط التي تجنّدها. إن التغيير التكنولوجي هو كذلك تغيير سياسي لأن الإنترنت تشكّل من جديد ذلك التقسيم  التراتبي التقليدي بين  المتكلمين والمستمعين وبين النخبة والجمهور. 
هكذا إنبثق المدوّن التونسي  من رحم الفضاءات الإفتراضية "مثقفا" جديدا  يكتسح المجال العمومي تماما كما ساهمت المطبعة في تشكيل نخب جديدة جعلت من الصحافة مجالا عموميا للجدل الفكري والنقاش السياسي. والمثقفون  الجدد متعدّدون فهناك من المدونين من يكتب  بالعربية الفصحى في قضايا الشأن العام السياسي والإجتماعي والثقافي في حين يسرد آخرون وقائع حياتهم اليومية بالفرنسية أو باللّغة الدارجة (واشهرهم Extravaganza). وثمّة من  يستخدم المدوّنة لعرض إبداعاته (كاريكاتور في حالة مدوّنة (débat Tunisie. ومن المدونين المغمور والمجهول  أو الذي يتخفّى وراء إسم مستعار (مدونة غدوة نحرق لصاحبها clandestino (. والمدون أخيرا يمكن أن يصبح نجما وكاتبا تحتفي به وسائط الإعلام العالمية (لينا بن مهني ومدونتها "بنية تونسية").
يستمد المثقف التقليدي سلطته من النموذج المجتمعي الذي يروّج له (حداثي، إسلامي، قومي، ليبرالي...). وهو منتج للأفكار يشهرها في المجال العمومي ليشكّل من خلالها آراء الناس ومعتقداتهم. والمثقف في المخيال العام لسان حال المجتمع وترجمان الجماهير الصامتة وهو مرآة لهمومها وأحلامها. أمّا المدوّن فهو لا يستمد سلطته من هذه المصادر التقليدية لأنه لا يبشّر بمشروع مجتمعي ولا يشتغل في صناعة الأفكار بقدر ما هو راو من نوع جديد للأحداث اليومية أو شاهد عليها . وفي تونس إستمدّ بعض المدوّنين إشعاعهم من السياق الذي ينشطون فيه. فأزمة المؤسّسات الثقافية التقليدية والصحافة على وجه الخصوص ساهمت بشكل حاسم في الرفع من مرتبة المدوّنين وفي تحويل الفضاء التدويني التونسي إلى عالم متعدّد الأصوات والرؤى تحكمه جمالية الكثرة والتنوع في مقابل عالم سائد تحكمه جمالية الهيمنة. وفي حين كان الفضاء التدويني يعجّ بالسرديات المختلفة كان الإعلام التقليدي سجين السردية الواحدة يردّدها بكل ملل. هكذا تحوّل المجال العمومي بفعل حجب المثقف عن المجتمع وإنقطاع الصحفي عن الميدان وتبخيس وظيفته إلى ساحة عموميّة مقفرة تستعرض فيها السلطة قوّتها. وفي الأثناء كان المدوّن يبرز كـ"مثقف" إفتراضي من طراز جديد عنيد لا قدرة للنظام على ترويضه، بل إن حجبه عن المجتمع ساهم في تخريب صورة النظام. هكذا أضحى المدوّن يختزل الصراع ضد قوى الحجب والمنع  في عصر النفاذ وحرية السيول بإعتبارها حريات اساسيّة  تروّج شبكة متنوّعة من المنظّمات والحركات جعلت من الحريات الإفتراضية قضية كونية.
لم يكن النظام يصارع فقط  زمرة من المدوّنين بل إستحقاقات العولمة الإتصالية برمّتها. فإستراتيجية الحجب تعكس مؤشرات "إحتضار ميديولوجي"  لمنظومة سلطوية لم تعد قادرة على الإستمرار في مجال وسائطي معاديا لها. فالتدوين يحيل كذلك إلى تأثيرات عولمة الإتصال، إذ أنه لا ينفصل عن دمقرطة إمكانات النشر الذاتي المجاني التي أتاحتها منصّات التدوين العالمية (وأهمّها خدمة بلوغر التي تديرها شركة غوغل)  التي توظف الرأسمال الثقافي للمدونين تحوّل عوالمهم إلى أدوات لإستقطاب الإشهار. هكذا أتاحت العولمة الإتصالية ذات الطبيعة الرأسمالية وسائل تملّكها الشباب لتحويلها في مرحلة ثانية إلى وسائل للفعل الثقافي والحضور في المجال العمومي ممّا يؤكّد أيضا الطابع المركّب للعولمة التي يري فيها  الخطاب الهوياتي الساذج تدميرا لأصالة ثقافتنا ونقائها. حاول النظام التصدّي لهذه العولمة الإتصالية لأنه كان يعلم أنها تخرب المنظومة السلطوية برمّتها فنجح في حجب بعض المنصّات (اليوتيوب) وتردّد في حجب بعضها الآخر (الفايسبوك) وأخضع  تلك التي لم يحجبها إلى سياسة المراقبة والعقاب.
المدوّن في مجال عمومي متعدّد
إنتصر المدونون على المنظومة الإعلامية السلطوية  برمّتها وسقطت كل الحواجز حتى أن الوكالة التونسية للإنترنت رفعت الحجب عن كل المواقع الجنسيّة. ولكن هذا النصر يتضمّن مفارقة لأنه يعلن أيضا عن عودة الوسطاء التقليديين إلى الساحة العامة : الشعراء والكتّاب والصحفيون والمثقفون. فأضحت الساحة العمومية عامرة بالأصوات وزاخرة بالصور والكلمات. هكذا وفي الآن ذاته الذي  يتحقق المدون من نصره على قوى الحجب عندما  يستمع إلى صخب الأصوات في كل مكان فإنه يكتشف كذلك الطابع الإشكالي لنفوذه. ولعلّ لينا بن مهني تختزل مسار المدوّن المتعدّد المسالك قبل الثورة وأثناءها وبعدها... فهي لم تعد "ناشطة"  تدافع عن الحريات ولكن "ملهمة الثورة عند الغرب"  و"مدونة بل مرجعية" لا تتورع بعض صفحات الفايسبوك عن نشر صورها الخاصّة جدّا. ومن جهة أخرى فإن حالة لينا بن مهني تؤشّر كذلك إلى التنافس بين المدونين والصحفيين الذين لم يستسغ بعضهم مشاركتها في لجنة إصلاح الإعلام. ولعلّ إستقالتها من هذه اللّجنة تؤشّر كذلك إلى هذا التنافس، المعلن عنه أحيانا والمسكوت عنه أحيانا أخرى، بين الصحفيين الراغبين في إستعادة وظيفتهم الإجتماعية والمدونين بإعتبارهم نخبة جديدة عازمة على مواصلة دورها في سياق جديد. تقول لينا بن مهني في رسالة إستقالتها من الهيئة إصلاح الإعلام "هناك صحفيون يشتمونني كل يوم، هؤلاء الذين كانوا عاجزين عن أن تكون لهم مواقف محايدة  وعن نقل الوقائع قبل 14 جانفي وبعده. انا لست صحفية هذا صحيح ولا يمكن أن أساعدكم  في إصلاح الإعلام ولكن ليس لعدم كفاءتي بل لأن القطاع فاسد حتى النخاع". كلمات قاسية  تعكس شعورا لدى بعض المدونين بأنهم تحمّلوا في مواجهة الدولة وظيفة الصحفي مما يشرّع لهم  نفوذا ما .
المدون ليس صحفيا
يخبرنا السؤال عن هويّة المدون في علاقتها بالصحافة عن التنافس بين النخب القديمة والجديدة من جهة وعن تأثيرات الميديا الجديدة على هوية الصحفي والصحافة من جهة أخرى. كما أن السؤال مزدوج لأن التداخل بين الممارستين متعدّد. فالصحفي يمكن أن يمارس التدوين في موقع صحيفته أو خارجها، كما أن المدوّن يمكن أن  يمارس نوعا من الكتابة متّصلا بالأحداث عبر النصّ والصورة بل وأن يمثل في حالات ما مصدرا بديلا للمعلومات عن الأحداث الإجتماعية. كما أن المواقع الإخبارية أحدثت منصات للتدوين في إطار إستراتيجية إحتواء المدونين (لوموند، الجزيرة، إيلاف...). ولكن وبالرغم من هذا التداخل فإن التدوين ليس صحافة والمدوّنون ليسوا صحفيين. هذه هي الفكرة التي نريد أن ندافع عنها هنا بكل وضوح. فالصحافة ممارسة ممأسسة  في مستوى التنظيم ومعايير كتابتها (وهي كونية) والصحافة مهنة وليست نزوة أو ممارسة عرضية. والصحفي فاعل إجتماعي يرتبط بعقد معلوم  مع المجتمع. وهي تقتضي، بإعتبارها مهنة، تكوينا جامعيا أو مهنيا تكميلا (كما تؤكد على ذلك مثلا الإتفاقية المشتركة الوطنية للصحفيين الفرنسيين ).
إن المؤسّسات التي تنشر دوريات ليست كلّها مؤسّسات إعلامية (فقد تكون جمعيّات أو منظمات حكومية أو غير حكوميّة...)  وليس  كل من يكتب في دورية ما صحفي (لأن الملحق الصحفي يكتب كذلك في الدورية التي تنشرها مؤسّسته). وعلى هذا النحو فإن مساعدات الدولة للمواقع الصحفية تشترط فيها أن توفّر "خدمة صحفية نحو الجمهور وتستخدم الشبكة وذات هدف مهني تصدر عن هيئة فردية أو شخصية معنوية تشرف على الإنتاج التحريري لمضمون أصيل ذي طابع عام يهمّ الجمهور العريض ويقع تجديده بإستمرار ويتكون من معلومات ذات علاقة بالأحداث خضعت للمعالجة الصحفية ولا تهدف للتسويق كما لا يجب أن تكون نشاطا ثانويا ....). أما جائزة بوليتز الأمريكية المشهورة في مجال الصحافة المكتوبة والإلكترونية فهي أكثر صرامة لانها لا تقبل للترشح سوى المواقع الإعلامية الصادرة عن مؤسّسات تعمل في مجال صناعة الأخبار News organizations  تكون مضامينها ذات علاقة بالأحداث الإجتماعية وتصدر بشكل دوري مرّة في الأسبوع على الأقل وأن تكون ملتزمة بأخلاقيات المهنة" . إن هذا التوصيف حاسم وقاطع  وهولا يستبعد المواقع الفردية والجماعية (مدونات، صفحات فايسبوك....) فحسب ولكن أيضا المواقع المؤسّساتية برمتها ذات الهدف التسويقي والإتصالي.
وإضافة إلى أن المدوّنة ليست صحيفة فإن نظام إكراهات المدوّن يختلف عن نظيره الذي يحكم الصحافي. فالمدون حرّ يكتب ما يشاء عندما يشاء وباللّغة التي يشاء : يمكن أن يكتب عن نفسه وعن أحزانه اليوم ثم عن إنتخابات المجلس الـتأسيسي غدا ويمكن أن يكتب بعض الاسطر أو صفحتين بالعربية أو بالفرنسية أو بالدارجة، بل أن هناك من المدونين من يتوقّف عن الكتابة شهرا كاملا ثم يعود عندما تنتابه نزوة الكتابة. أما الصحفي فهو على عكس ما تروجه سردية "الصحفي الحر الطليق" الرومانسية  فإن الصحفي يخضع إلى عدد من الإلتزامات لا حصر لها، الكثير منها مقنّن وممؤسس. فالصحفي يلتزم بقواعد مخصوصة للكتابة لا يمكن أن يتحررّ منها، بل إن أن العديد من المؤسسات الإعلامية العالمية الراسخة في المهنية  قننت  أسلوبها التحريري في دليل يلتزم به الصحفي. والصحفي ملتزم كذاك بأخلاقيات المهنة وبالخط التحريري  للصحيفة التي يعمل بها. اما الصحفي  الذي يشتغل في صحيفة حزبية فهو حرّ في الحدود الذي يتيحها لها حزبه وهذا طبيعي جدا. في حين يلتزم الصحفي الذي ينتمي إلى مؤسسة إعلامية عمومية بإحترام مهامّ المرفق العمومي.
وعلى عكس المدوّن فإن هويّة الصحفي ليست سياسية أو أيديولوجية بل هي مهنيّة. فالقارئ لا يحترم الصحفي لأنه حداثي أو ديمقراطي أو  مدافع عن الهويّة أو لأنه حرّ بل لأنه مهني ومستقل عن المصالح ويحترم قواعد مهنته ومبتكر ومبدع.  وفي المجتعات ذات التقاليد الأصيلة في التنظيم الذاتي للصحافة يخضع الصحفي إلى المسائلة عن  طريق مجالس الصحافة  أو عن طريق أنظمة الوساطة (الموفق الإعلامي) والشكاوي المتاحة للجمهور، بل إن الصحفي حسب مجلس الصحافة البلجيكي يمكن أن يساءل عندما لا يحترم أخلاقيات المهنة وهو يكتب على جداره في صفحة الفايسبوك !
والواقع ان المدونين لا ينافسون الصحفيين لأن هؤلاء تخاذلوا عن أداء مهنتهم، كما يروّج لذلك بعض المدونينن لأن الصحفيين كانوا ضحايا منظومة شاملة حاول البعض منهم التصدي لها، بل لأن إعتقادا سائدا، يردّده الصحفيون أنفسهم أحيانا، بأن الصحافة توصيل ونقل للمعلومات في حين أنها تستكشف الواقع وتنير المواطن وفق آلية لا تشتغل دائما وفق مبدأ المرآة العاكسة.  إن القول بالتمايز بين الصحافة والتدوين لا يعني إقصاء التدوين من المجال  التواصلي أو العمومي لأن الصحفي والمدوّن ضروريّان للمجتمع كلّ في إطار شرعيته.  فدون الصحفي سيتحوّل المجال الإعلامي إلى مجال صاخب لا أحد يستمع فيه إلى  الآخر وسيفقد المجتمع إمكانية الحصول على  أخبار موثوقة تساهم في تنوير المواطن.  أمّا المدون، بإعتباره فاعلا ثقافيا جديدا، فهو كذلك ضروري لحيويّة المجال العمومي المتنوّع وغير المنمط ثقافيا. كما يمكن أن يكشف المدون عمّا تخفيه المؤسّسات الإعلامية، فيتحول عندما لا يقوم الصحفي  بمهمته كاملة إلى مصدر بديل.

0 commentaires:

Enregistrer un commentaire