6/24/2011

أهم وسيلة للدفاع عن المهنة الصحفية ممارستها يوميا في الميدان

الجامعي والباحث في مجال الإعلام الصادق الحمامي لـ«الصحافة»:
الدكتور الصادق الحمامي جامعي وباحث مرموق في مجال الإعلام يدرّس في كلية الاتصال في جامعة الشارقة وبمعهد الصحافة وعلوم الاخبار وهو مؤسس ورئيس تحرير البوابة العربية لعلوم الاعلام والاتصال وله عديد البحوث والدراسات في هذا المجال وسيصدر له قريبا كتاب «الميديا الجديدة: الابستمولوجيا والاشكاليات والسياقات» عن الظاهرة الاعلامية والتقاطع بين الاعلامي والسياسي في تونس اليوم يتحدث الينا

 أجرت الحوار: منيرة رزقي

كيف تنظرون الى الحراك الذي تعيشه تونس اليوم ؟
مرحلة ما بعد الثورة هي مرحلة البناء. الثورة تقوّض النظام لكنها لا تهب الديمقراطية ومؤسّساتها.  ثم أن الحراك الحالي هو أيضا مرحلة تعلّم سلوكيات جديدة. الأحزاب السياسية مثلا ستتحوّل من  المعارضة إلى التنافس على السلطة وهذا دورها الطبيعي.  الرهان على المدى القريب جدّا هو بطبيعة الحال  إنتخابات المجلس التأسيسي ثم الإنتخابات التشريعية والرئاسية. لكن الديمقراطية ليست آليات إنتخابية فحسب، فهي كذلك نموذج ثقافي للعيش المشترك يقوم على التنوّع والإختلاف وعلى تنظيم المجتمع لنفسه بواسطة المعايير والقيم التي يبتكرها عبر المداولة والنقاش التي يشارك فيها المواطنون. الديمقراطية تستبعد إذن الإيديولوجيات، يمينية كانت أو يسارية، التي تعد بالخلاص وإمتلاك الحقيقية. إن الديمقراطية نموذج فضائحي بالنسبة لهذه الإيديولوجيات لانها تعلن عن توزيع إجتماعي جديد للحقيقة. الحقيقة تصبح إبتكارا جماعيا. هذا  النظام الجديد مؤلم جدا بالنسبة لمن تربّى على النموذج التبشيري للحقيقة. في هذا الإطار بعض عوائق الدمقرطة في تونس ستقيمها تيارات تؤمن بالديمقراطية الأداتية فحسب.
لا يجب أن نحكم على الديمقراطية الناشئة في تونس من خلال الإنتخابات فقط بل يجب أن ننتبه كذلك إلى المجال العمومي وإلى فضاءاته. الديمقراطية ليست آلية تتمتع بها النخب السياسية فقط بل هي أيضا تنظيم للعيش المشترك.  وهي تكفل حقّ المواطن في أن يعيش بلا وصاية فكرية أو سياسية وأن يكون مستقلاّ عن الأحزاب وأن يشارك برأيه في قضايا الشأن العام. أنا أنظر إلى الحراك السياسي والثقافي من هذا المنظور. الديموقراطية التونسية الناشئة يجب أن تقوم على هذا التوازن بين النخب النشطة في المجال السياسي والمواطنين النشطين في المجال العمومي وعلى الحرية في المجالين.
كيف تقيمون أداء الإعلام التونسي بعد الثورة ؟
المرحلة الحالية هي مرحلة الخروج من نموذج الإعلام السلطوي إلى نموذج الإعلام الديمقراطي. هذا الإنتقال عملية  حرجة يساهم  فيها عدّة  فاعلين : الصحفيون والمؤسّسات الإعلامية والأحزاب والمنظمات والمواطنون.
أنا لست من هواة تأنيب الصحفيين كما يفعل ذلك البعض لكن أقول أن المهمّة الرئيسية بالنسبة إلى الصحفي الآن هي إكتساح الميدان. الصحافة ممارسة قبل أن تكون قضيّة. لا يمكن أن ندافع نظريا فقط عن حرية الصحافة. أهمّ وسيلة  للدفاع عن المهنة هي ممارستها يوميا في الميدان. التونسيون يريدون صحافة جديدة  تتجسّد في مضامين مهنيّة ومبتكرة. الصحفي الذي نحتاجه اليوم هو الصحفي المغامر في الميدان وهو الذي يجب أن يصبح  النموذج القدوة. حرية الصحافة يمكن أن تؤسّس عبر آليات عديدة لكن الممارسة المهنية  الميدانية هي التي تفعّل هذه الآليات. العديد من  الأحداث  كانت يمكن أن يحقق فيها الصحفيون لكن بقينا إلى حد الآن في مستوى التقرير الإخباري. المجتمع بحاجة إلى أن يستعيد الصحفي هيبته ومكانته لان الصحفي مكوّن أساسي في الديمقراطيّة ليس  بإعتباره سلطة كما يعتقد البعض بل لأنه هو الذي يقوم بتنوير المواطن ومساعدته على إدراك الواقع وعلى إتخاذ القرارات السياسية الراشدة بإعتباره إرادة حرّة.
الإعلام الديموقراطي يحتاج كذلك إلى إنتشار ثقافة المساءلة وأن يقبل الفاعلون السياسيون والمؤسّسات الحكومية  والمنظمات المهنية والمدنية بالخضوع  إلى النقد والمساءلة والتنوير التي يتحّملها الصحفيون. لكن من جهة أخرى فإن الإعلام الديمقراطي يجب أن يخضع كذلك إلى آليات تنظيمية. وفي هذا الإطار دعوت في كتاباتي الأخيرة إلى التفكير في إرساء مجلس الصحافة وهو الشكل التنظيمي المعتمد في الدول الديمقرطية العريقة والناشئة، هذا المجلس يتركّب من الصحفيين والمؤسسات الإعلامية والمواطنين وهو يدافع عن حرية الصحافة ويحميها. وهو أيضا آلية للوساطة بين المواطنين والصحفيين لحلّ الإشكاليات  المتعلّقة  بالبعد الأخلاقي. مجلس الصحافة هو المعيار الذي توصي به منظمة اليونسكو للتنظيم الذاتي لقطاع الصحافة. لكن أرى بكل أسف أن مقترح مجلس الصحافة لم يجد الصدى المنتظر وقد يعود هذا إلى إعتمادنا في تونس على النموذج الفرنسي  الذي يقر الفرنسيون أنفسهم بفشله  في حين نتجاهل النماذج الأنقلوسكسونية القائمة على فكرة المساءلة وعلى التوازن بين الحرية والمسؤولية. 
يعتقد البعض انه ثمة مشكلة اتصال وتواصل اليوم في علاقة الحكومة بباقي الفاعلين في المشهد السياسي والمواطنين ووسائل الإعلام الى أي مدى يصح هذا القول من وجهة نظركم ؟
 يجب أن نعتمد معايير مضبوطة تحكم السياسية الإعلامية  للحكومة مع المجتمع بمختلف فاعليه.  هناك مبادرات متعدّدة لكنها لا ترقى إلى مستوى الإستراتيجية الواضحة. في الأيام الأولى للحكومة المؤقتة الأولى كان أحد كتاب الدولة ينقل على المباشر في التويتر وقائع مجلس الوزراء. هكذا إنتقلنا من منطق الإنغلاق  الشامل إلى منطق الشفافية الكاملة بلا ضوابط.  ثم أن العديد من الوزارات والمؤسّسات أنشأت صفحات على الفايسبوك، إضافة إلى اللّقاء الدوري مع الصحفيين. في المقابل هناك إحساس بأن سياسة الحكومة المؤقّتة في مجال الإعلام ليست في مستوى الإنتظارات.
في إعتقادي الحلّ يتمثّل في وضع منظومة معايير إتصالية تلتزم بها المؤسّسات الحكومية ويمكن من خلالها مساءلتها، إضافة إلى أن وضع قانون يؤمن الحق في النفاذ إلى المعلومات كما هو الحال في الديمقراطيات الإنقلوسكسونية. وتنظيم وظيفة الإتّصال في المؤسسات الحكومية  والإسراع بوضع آليات تنظيم الٌقطاع الإعلامي السمعي البصري لتنظيم إسناد الرخص للقنوات الإذاعية والتلفزيونية.
نحن إذن في مرحلة  يتعلّم فيها الجميع ممارسات جديدة في سياق جديد. والمهم أن نمرّ إلى القواعد الممأسسة.  وفي هذا الإطار أنا أتساءل لماذا لا  تنظم هيئة إصلاح الإعلام مؤتمرا وطنيا يدعى فيه الجميع للنقاش حول كل هذه القضايا بكل شفافية.
كيف تقرؤون الانفجار الحاصل اليوم في وسائل الإعلام وخاصة الفضائيات وأثاره على المعيش اليومي للأفراد واسهامه في الحراك السياسي الذي تعيشه البلدان العربية؟
ما يسمّى الإنفجار الإعلامي بدأ في الحقيقة منذ التسعينات. وهو نتيجة عاملين أساسيين : سلعنة الإعلام الذي تحوّل إلى سوق لإستقطاب الإنفاق  الإشهاري أولا وإستخدام الإعلام في إطار إستراتيجيات التأثير والبحث عن النفوذ لتشكيل الرأي العام ثانيا. ومن جهة أخرى فإن أدوار القنوات الفضائية مرتبطة بشكل كبير بأزمة الإعلام الوطني التي جعلت من هذه القنوات مصدرا إخباريا بديلا. ففي الديموقراطيات العريقة حيث يقوم الإعلام الوطني بدوره فإن الإعلام الأجنبي ليس له أي دور. فالبريطانيون لا يشاهدون “الجزيرة الإنقليزية” أو “سي أن أن” لمتابعة أخبار بريطانيا بل يشاهدون البي بي سي.
من جهة أخرى وبسبب إحتكار السلطة السياسية للإعلام أصبح من الشائع الإعتقاد أن الإعلام سلطة. وهذا في الحقيقة وهم سياسي وفكري. النظام السابق إحتكر الإعلام وسيطر عليه معتقدا أنه سلطة يجب أن يحتفظ بها لنفسه ويمنعها عن الآخرين  لكن هذا لم ينفعه في شيء بل بالعكس تحوّل الإعلام إلى عامل لتخريب علاقته بالمجتمع.
مقولة الإعلام سلطة أعتقد ان فائدتها الوحيدة هي رد الإعتبار للصحفي، لكنها لا تساعدنا على  تصور الادوار الجديدة للصحفي في مجتمع ينشد الديمقراطية.  السلطة تحيل إلى دلالات تتعلق بالقوة والنفوذ، إضافة إلى أن  كل سلطة تحتاج إلى سلطة مضادة : فما هي إذن السلطة المضادة لسلطة الصحفيين ؟ كما أن السلطة في المجتمعات الديمقراطية تحتاج إلى إطار يقيدها حتى لا تصبح سلطة منفلتة.  مقولة الإعلام سلطة مرتبطة بالمخيال السياسي للإعلام ولهذا أنا  لا أستسيغها، وكأن الصحفيين يبحثون عن التماهي في النفوذ والقوة والتراتبية والوجاهة مع السلطة التنفيذية والقضائية.
الأفضل بالنسبة للصحافة، عوضا أن تكون سلطة، أن تستعيد دورها بإعتبارها مؤسسة وساطة. الصحفي لا يبحث عن إمتلاك السلطة  بل إن وظيفته هو مساعدتنا على إدراك الواقع الذي نعيش فيه، وظيفته أن يساعدنا على فهم العالم. الصحفي لا ينقل المعلومة كما يعتقد البعض ولا يمنّ عليه برأيه في موضوع ما هذه الادوار يمكن أن يقوم بها  المدون أو ما يسمى الصحفي المواطن. الصحفي يعاين ويدقق ويتأكد مما يسمع ويرى ويقرأ ويبحث عن المصادر ويقارن بينها. هذه العملية معقدة جدا ومكلفة وتحتاج إلى عدة كفاءات يجب إكتسابها ولا علاقة لها بالموهبة.   ومن جهة أخرى فإن السرديات الصحفية المتعددة هي التي تخلق هذا التنوع وهي التي تساعد المواطن على إدراك الواقع من آفاق مختلفة. إذن الصحافة لها صلة  بالحقيقة وبالمعرفة. المشكل أن الصحفي التونسي يتمثل مهنته في علاقتها بعملية توصيل المعلومة. ومن هنا جاء الصراع  والتنافس مع المدون والمواطن الصحفي لأنهما هما أيضا يبحثان عن توصيل المعلومة. بعض المدونين يشارك في حدث ما يخرج جواله يصور ما يرى ثم ينشر هذا على صفحته ويكتب نصا للتعليق على الفيديو. ويشعر فجأة بأنه بلغ مرتبة الصحفي المغوار. وهذا بطبيعة الحال شعور زائف ووهم.  أنا أدعو الصحفيين التونسيين لإعادة تشكيل تمثلاتهم لأنفسهم ولهوياتهم الإجتماعية عبر مفهوم الوساطة الذي يقتضي الإنتقال من نموذج التوصيل والإبلاغ إلى نموذج السرد والمعرفة.
يؤكد بعض الباحثين في الإعلام ان الفايس بوك يقف وراء الثورة العربية الى أي مدى يمكن ان يصدق هذا القول وهل يمكن ان تكون  الأنترنات بديلا عن الإعلام التقليدي ؟
مقولة ثورة الفايسبوك والخطاب حول الميديا الجديدة بشكل عام  تحتاج إلى الكثير من التدقيق. هناك تراث نظري  هام جدا يمكن أن نستلهم منه طرق التفكير في الثورة وفي علاقتها بوسائط الإعلام وتسمح لنا بتجاوز تبخيس الفايسبوك وإعتباره مجرد وسيلة وتهويل دوره وإعتباره سببا رئيسا في الثورة. السؤال حول الفايسبوك يذكرني بالنقاش النظري حول دور الكتب والأفكار والفلاسفة في الثورة الفرنسية. الدرس النظري الذي يمكن أن نستخلصه من مقاربة  المدرسة التاريخية الفرنسية الجديدة هو إستبعاد التفكير في الثورات من خلال الأسباب المباشرة، لانها لا تفسّر كل شيء فالأزمات الإقتصادية لا تؤدي كلها إلى ثورات تماما كما أن المجتمعات  العربية التي ينتشر فيها الفايسبوك لن تشهد كلها ثورات.  التمشي النظري السليم هو أن ننتقل من السؤال عن الوسائط إلى السؤال عن تفاعلها مع السياق الثقافي . المهمّ هو أن نفكر في الطرق التي فعّل  بها التونسيون الإمكانات الكامنة في الفايسبوك في سياق الأحداث.  ومن هذا المنظور يجب أن نهتم بالمستخدمين وليس بالوسيط فحسب. الشباب التونسي أعاد إبتكار الفايسبوك من خلال  إستخدامات جديدة   لمناهظة النظام ومعارضته. لاحظت في هذا الإطار أن كل الأدوار التي إرتبطت بالفايسبوك زمن الثورة هي إمتداد لممارسات سابقة : التعبير والنقاش والمناهضة وتبادل الأخبار والمعلومات وتنسيق التحركات الميدانية.  أنا أتحدث هنا عن ما أسمّيه “القوة الثقافية” التي كان يشكلها الشباب قبل الثورة وتتعلق هذه القوة بالقدرة على  التلاعب بآليات الهيمنة. هذه القوة كانت تتجسّد  في  مجموعات إفتراضية متعددة المشارب وفي  القدرة على إبتكار مضامين ثقافية.  ..... يجب ان ننظر إلى الفايسبوك على أنه فضاء عمومي بديل ومواز. ما حصل زمن الثورة هو تسييس الفايسبوك  لأن زمن الثورة هو الزمن الذي تحوّلت فيه السياسة إلى قضية كل التونسيين الذين عبّروا عن حماستهم للثورة من خلال عدة أشكال تعبيرية. في تلك اللحظة  تجلّى في الفايسلوك التونسيون كجماعة واحدة. الفايسبوك ليس إذن وسيلة أو سببا بل هو المشهد الذي تحول فيه التونسيون من ناظرين إلى الأحداث إلى المشاركين فيها بطريقة رمزية وافتراضية ولكنها فاعلة في الوقت ذاته. 
لكن كل هذا لا يجعل من الانترنات إعلاما بديلا لإعلام تقليدي مرشح للإندثار  في المقابل الإنترنات يمكن أن تفرز نوعا جديدا، وليس بديلا، من الصحافة. ومن جهة أخرى فإن الفاعلين في مجال الصحافة الإلكترونية هم في أغلب الحالات  المؤسّسات الإعلامية التقليدية. المصادر الحقيقية تبقي المصادر التقليدية والمضامين الإعلامية المتداولة في الإنترنات أغلبها تقليدية. لكن في حالات إستثنائية يمكن للفايس بوك أن يصبح مصدرا للمعلومات.  كما لا يمكن أن نتحدث اليوم عن اشكال صحفية خاصة بالإنترنات. يجب أن ننظر أيضا  إلى الإنترنات على أنها عامل من عوامل تجديد المؤسسات الإعلامية التقليدية. ثم أن تاريخ الإعلام لا يشتغل وفق مبدأ القطيعة او البدائل.
هل يمكن ان نعتبر بعض الفضائيات وتحديدا قناة الجزيرة فاعلا مركزيا في الحض على الثورة؟
يجب أن نتجاوز خطاب شيطنة الجزيرة أو تمجيدها. الجزيرة لعبت دورا هاما في إشهار الفيديوهات التي كانت تنتشر في الفايس بوك  فأخرجتها من الفضاء الإفتراضي الضيق نحو الجمهور التونسي الواسع ونحو العالم العربي والعالم. ثم لا ننسى أن الجزيرة قادرة على تحديد أجندة القنوات الفضائية  الأخرى التي تقلدها. الجزيرة هي التي عرّفت  بوثائق  ويكيليكس حول النظام التونسي.  قبل أحداث الثورة وأثناءها الجزيرة كانت  المصدر الإعلامي البديل. النظام استنتج أنه فقد  السيطرة على  العملية الإعلامية برمّتها فراح يخاطب التونسيين  بواسطة قناة الجزيرة. إذن  أزمة منظومة الإعلام السلطوي في تونس هي التي هيأت السياق  التي أصبحت تمارس فيه الجزيرة نفوذها، بل إنها تحوّلت إلى وسيط بين النظام والمجتمع التونسي. في تلك اللحظة  اصبحت منظومة الإعلام كلها التي عمل النظام على الاستحواذ عليها معتقدا أن في ذلك ضمانا لسلطته خارج الإستعمال ولا تصلح لشيء.  لكن هذا لا يعني أن الجزيرة هي التي قوّضت النظام. عملية تقويض النظام  يقوم بها المواطنون في الشارع.  الجزيرة ساهمت في تشكيل تمثّلات الناس لواقعهم. وعندما اعتبر التونسيون أن هذا النظام لم يعد صالحا بالنسبة إليهم وأن تقويضه أصبح عملا مشروعا ومقبولا ومطلوبا إنهار النظام. 
أما إستراتيجية الجزيرة فهي واضحة إذ تريد أن تصبح فاعلا رئيسا في المجال الإعلامي بل الفاعل المهيمن من خلال إستراتجية توسّعية  في كل المجالات من الأخبار والرياضة  إلى الأفلام الوثائقية وبرامج الأطفال...  لكن الجزيرة تبقى خارج أية آلية مساءلة  ديمقراطية على عكس القنوات العمومية وحتى الخاصة التي تخضع لعقد أو لكراس شروط. الجزيرة حرّة تتصرف كما تريد خارج كل إطار قانوني هي تحاسب الجميع ولا أحد يحاسبها.
أخيرا الجزيرة تمثل تحديا معرفيا. فسياق نشأة  المؤسسة وتنظيمها وحوكمتها لا علاقة له بالنموذج الذي يحكم الإعلام في الديمقراطيات وبالرغم من هذا فهي تختزل في المخيال العام وحتى عند بعض الباحثين النموذج  الذي يختزل الديمقراطية بل هي رمزها !

يعيش الإعلام العمومي حالة تخبط قصوى في تونس وقد كان لكم رأي في هذا الشأن هل يمكن ان نعرف ملامح قراءتكم في هذا الصدد ؟
إصلاح الإعلام العمومي يجب أن يكون أولوية، لأن المجال العمومي يشهد الان في تونس عملية تشظ واسعة. فتعدّد الصحف الحزبية  وفضاءات الفايس بوك التي يحكمها الإنسجام الفكري والعداء للأفكار المختلفة أضحى يقسّم التونسيين. أنا لا أعتقد  في السياق الحالي أن الفايس بوك يمكن أن يكون فضاء للنقاش العام أو مصدرا للأخبار الموثقة  والمستقلة والنزيهة. لم أجد في الفايس بوك فضاء واحدا للنقاش يشارك فيه التونسيون بشكل رصين.
 الإعلام العمومي المهني والمستقل  إذن هو الذي يجب أن يجمع كل التونسيين في إطار زماني ومكاني مشترك حول قضايا مشتركة. الإعلام العمومي إذاعيا أو تلفيزيونيا أو مكتوبا هو الذي  يقوم بدور الساحة العامة التي تجمع كل التونسيين في إطار نقاش عام يتعرّض فيه لكل الآراء المختلفة. هذا أهمّ دور يمكن أن يقوم به الإعلام العمومي في تونس إضافة إلى أدواره الأخرى المتعلقة  بالإخبار وبخدمة الثقافة الوطنية. الإعلام العمومي يجب أن يكون مستقلا عن المصالح السياسية ويعمل في إطار عقد معلوم الأهداف التي يمكن للمجتمع أن يسائله من خلالها  المؤسسات الإعلامية العمومية.

0 commentaires:

Enregistrer un commentaire