صدر في جريدة المغرب اليومية 3-سبتمبر-2011
الفايسبوك عالم متعدد الأبعاد تتعايش داخله ممارسات ومضامين لا حصر لها : علاقات اجتماعية، إشهار، تسويق، نقاشات عامّة، خطابات ذاتية، دعاية سياسية، إشاعات...، فلا غرابة إذن أن يستثمر السياسيون بمشاربهم المختلفة الفايسبوك، حتى أولئك الرافضون للحداثة الغربية تجدهم يتبخترون في الفايسبوك، هذا الفضاء المرتبط عضويا بالرأسمالية وبقيم الحداثة.
والمفاجأة في سباق السياسيين لجمع المريدين والمناصرين والمعجبين أن أكثرهم شهرة هو الحبيب بورقيبة. صفحات عديدة أطلقها التونسيون للاحتفاء بـ"المجاهد الأكبر"
الفايسبوك عالم متعدد الأبعاد تتعايش داخله ممارسات ومضامين لا حصر لها : علاقات اجتماعية، إشهار، تسويق، نقاشات عامّة، خطابات ذاتية، دعاية سياسية، إشاعات...، فلا غرابة إذن أن يستثمر السياسيون بمشاربهم المختلفة الفايسبوك، حتى أولئك الرافضون للحداثة الغربية تجدهم يتبخترون في الفايسبوك، هذا الفضاء المرتبط عضويا بالرأسمالية وبقيم الحداثة.
والمفاجأة في سباق السياسيين لجمع المريدين والمناصرين والمعجبين أن أكثرهم شهرة هو الحبيب بورقيبة. صفحات عديدة أطلقها التونسيون للاحتفاء بـ"المجاهد الأكبر"
ومنها على وجه الخصوص صفحة جماعيّة ضمّت أكثر من 150 ألف عضو. هكذا يتأخر السياسيون عن بورقيبة في سباق الشعبية بالرغم من أن رئيس تونس السابق لا يملك، مثل السياسيين الحاليين، ماكينة تسويقية ونشطاء يروّجون لصورته ولصفحاته. كما أن بورقيبة لا يتحدّث في القنوات الفضائية العربية وصفحته لا تجمع المناصرين من كل العالم العربي.
ومن جهة ثانية فإن إشعاع بورقيبة في الفايسبوك مفاجئ لأن الشبكة الاجتماعية فضاء المراهقين والشباب بامتياز وهؤلاء لم يعرفوا بورقيبة وسمعوا عنه ذمّا كثيرا. فبورقيبة رمز تكاتفت قوى عديدة لتدميره وتبخيسه بل ولمحوه من الذاكرة الجماعية. ولكن بورقيبة في كلّ مرّة يعود كطائر الفينيق يسترد عافيته "الرمزية" ليبقى مرجعا لفئات عريضة من التونسيين ورمزا يقدّرونه.
عمل النظام السابق على تغييب بورقيبة من الذاكرة الجماعيّة لأنه ككلّ الأنظمة الأبوية لا يقبل إلا زعيما واحدا مسيطرا يحتكر مؤسّسة القيادة، لا يتقاسمها مع أحد حتى ولو كان في عداد الأموات. ويتذكّر التونسيون كيف تجاهلت التلفزة الوطنية نقل جنازة الحبيب بورقيبة. ومن جهة أخرى نزع الإعلام كل فرادة عن "المجاهد الأكبر" وحوّله إلى مناضل ضمن جماعة المناضلين الذين ساهموا في مقاومة الاستعمار وبناء الدولة التونسية الحديثة. وإضافة إلى هذا فإنّ قوى سياسية وإيديولوجية متنوّعة لم تنفك عن الفتك بالرمز لتدميره. فهو عندها "عميل الصهيونية" وأحد "رموز التطبيع" الكبرى و"عدوّ الهوية الأصيلة" للشعب . و"ديكتاتور"و"طاغية" مرتبط بالإمبريالية العالمية...
ظلّ بورقيبة، رغم إستراتيجية النظام السابق لمحوه من الذاكرة الجماعية وإستراتيجية معارضيه المتنوعيّن لتدميره، رمزا متجددا لدى فئات عريضة من التونسيين ومنها الشباب. وتجلّت هذه المكانة الرمزية في صفحات الفايسبوك والجماعات الافتراضية التي تحتفي به. درسان يمكن استخلاصهما من هذا الاحتفاء.
ومن جهة ثانية فإن إشعاع بورقيبة في الفايسبوك مفاجئ لأن الشبكة الاجتماعية فضاء المراهقين والشباب بامتياز وهؤلاء لم يعرفوا بورقيبة وسمعوا عنه ذمّا كثيرا. فبورقيبة رمز تكاتفت قوى عديدة لتدميره وتبخيسه بل ولمحوه من الذاكرة الجماعية. ولكن بورقيبة في كلّ مرّة يعود كطائر الفينيق يسترد عافيته "الرمزية" ليبقى مرجعا لفئات عريضة من التونسيين ورمزا يقدّرونه.
عمل النظام السابق على تغييب بورقيبة من الذاكرة الجماعيّة لأنه ككلّ الأنظمة الأبوية لا يقبل إلا زعيما واحدا مسيطرا يحتكر مؤسّسة القيادة، لا يتقاسمها مع أحد حتى ولو كان في عداد الأموات. ويتذكّر التونسيون كيف تجاهلت التلفزة الوطنية نقل جنازة الحبيب بورقيبة. ومن جهة أخرى نزع الإعلام كل فرادة عن "المجاهد الأكبر" وحوّله إلى مناضل ضمن جماعة المناضلين الذين ساهموا في مقاومة الاستعمار وبناء الدولة التونسية الحديثة. وإضافة إلى هذا فإنّ قوى سياسية وإيديولوجية متنوّعة لم تنفك عن الفتك بالرمز لتدميره. فهو عندها "عميل الصهيونية" وأحد "رموز التطبيع" الكبرى و"عدوّ الهوية الأصيلة" للشعب . و"ديكتاتور"و"طاغية" مرتبط بالإمبريالية العالمية...
ظلّ بورقيبة، رغم إستراتيجية النظام السابق لمحوه من الذاكرة الجماعية وإستراتيجية معارضيه المتنوعيّن لتدميره، رمزا متجددا لدى فئات عريضة من التونسيين ومنها الشباب. وتجلّت هذه المكانة الرمزية في صفحات الفايسبوك والجماعات الافتراضية التي تحتفي به. درسان يمكن استخلاصهما من هذا الاحتفاء.
بورقيبة عابر الأزمنة الإعلامية
يتعلّق الدرس الأوّل ببورقيبة نفسه، الشخصية التي لا يمكن لأحد من معارضيها أن ينفي عنها صفة الفرادة إن كان على قدر بسيط من الموضوعية التاريخية. وإذا نظرنا إلى هذه الفرادة من الزاوية الإعلامية لا يمكن أن نغفل عن هذه العلاقة العضوية لبورقيبة بالإعلام عموما. فالرجل تفاعل مع الوسائط الإعلامية كلّها : مارس الاتصال المباشر وجاب تونس يخطب في التونسيين مستعملا كاريزما نادرة لتجنيدهم للنضال ضد المستعمر. ثم أسّس، عندما عاد إلى تونس بعد دراسته المحاماة في باريس، جريدة العمل التي كان أحد كتابها البارزين.
وفي مرحلة ثانية استحوذ بورقيبة على التلفزة، التي كانت بالنسبة إليه وسيطا بينه وبين التونسيين والوسيلة المثلى التي "يربّيهم" بفضلها على القيم الجديدة التي يبشرّ بها. هكذا امتلك بورقيبة التلفزة لنفسه يخاطب منها الشعب متى يريد. فهي النافذة التي يخاطب منها التونسيين كل يوم وهى كذلك النافذة التي يطلّ منها التونسيون على عالمه كل يوم فيشاهدونه يستقبل ضيوفه ويسبح أو يروي على مسامعهم تفاصيل حياته الذاتية. ولكن التلفزة ليست بريئة فهي وإن كرّست في سياق سابق زعامة بورقيبة فقد ساهمت كذلك بشكل عكسي في تدميرها عندما أصبحت مشهدا لبورقيبة العجوز العليل العاجز عن الممارسة الفعلية للسلطة.
ولمّا غاب بورقيبة عن الأنظار لم يندثر من الذاكرة الجماعية. كان بورقيبة غائبا عن الإعلام لكنه ظلّ حيّا في العالم المعيش لدى الناس يتدولون ذكراه. وعندما بلغت الميديا الجديدة مداها الاجتماعي عاد بورقيبة فتجلىّ في الفضاء الافتراضي "زعيما" من جديد. هكذا عاصر بورقيبة، بطرق متباينة، الأزمنة الإعلامية كلّها : الإعلام المكتوب (الصحيفة) والمرئي (التلفزة) والافتراضي (الإنترنت) حيث لا يزال الآلاف يشاهدون خطاباته على اليوتيوب أو على الفايسبوك. وعلى هذا النحو فإن "بورقيبة الافتراضي" حالة مثلى للتفكير في المسارات المعقّدة لتشكّل ذاكرتنا الجماعية ومخيالنا العام اللذين لا يمكن لأحد أن يبرمجهما أو أن يتحكّم فيهـما.
وفي مرحلة ثانية استحوذ بورقيبة على التلفزة، التي كانت بالنسبة إليه وسيطا بينه وبين التونسيين والوسيلة المثلى التي "يربّيهم" بفضلها على القيم الجديدة التي يبشرّ بها. هكذا امتلك بورقيبة التلفزة لنفسه يخاطب منها الشعب متى يريد. فهي النافذة التي يخاطب منها التونسيين كل يوم وهى كذلك النافذة التي يطلّ منها التونسيون على عالمه كل يوم فيشاهدونه يستقبل ضيوفه ويسبح أو يروي على مسامعهم تفاصيل حياته الذاتية. ولكن التلفزة ليست بريئة فهي وإن كرّست في سياق سابق زعامة بورقيبة فقد ساهمت كذلك بشكل عكسي في تدميرها عندما أصبحت مشهدا لبورقيبة العجوز العليل العاجز عن الممارسة الفعلية للسلطة.
ولمّا غاب بورقيبة عن الأنظار لم يندثر من الذاكرة الجماعية. كان بورقيبة غائبا عن الإعلام لكنه ظلّ حيّا في العالم المعيش لدى الناس يتدولون ذكراه. وعندما بلغت الميديا الجديدة مداها الاجتماعي عاد بورقيبة فتجلىّ في الفضاء الافتراضي "زعيما" من جديد. هكذا عاصر بورقيبة، بطرق متباينة، الأزمنة الإعلامية كلّها : الإعلام المكتوب (الصحيفة) والمرئي (التلفزة) والافتراضي (الإنترنت) حيث لا يزال الآلاف يشاهدون خطاباته على اليوتيوب أو على الفايسبوك. وعلى هذا النحو فإن "بورقيبة الافتراضي" حالة مثلى للتفكير في المسارات المعقّدة لتشكّل ذاكرتنا الجماعية ومخيالنا العام اللذين لا يمكن لأحد أن يبرمجهما أو أن يتحكّم فيهـما.
"الشعب" في زمن الفايسبوك
ومن جهة أخرى، فإن شعبية بورقيبة في الفضاء الإلكتروني جارحة لخطاب بعض النخب التي ترى في بورقيبة زعيما غير أصيل استمدّ سلطته الرمزية من احتكار مؤسّسات الدولة أو من مساندة القوى الاستعمارية كما يقولون. وقد ترى بعض النخب أن هذه الشعبية الافتراضية هي بدورها مؤامرة تحيكها أطراف ما لتضليل الشعب... فهذه النخب تعتقد أن التونسيين لا يحبون بورقيبة أو أن بورقيبة أرغمهم على حبه. فالشعب التونسي الأصيل لا يمكن أن يهيم بهذه الشخصية التي تختزل كل ما يكرهونه : الغرب والحداثة واللاّئكية أو الاستعمار والإمبريالية والتطبيع..... تعتقد هذه النخبة أنها "أصيلة" و"ملتحمة" بالشعب وهي عالمة تلقائيا بهويته وبثوابته والعارفة بما يطمح إليه وهي تتكلم باسمه وتدافع عن مصالحه حتى تلك التي يجهلها.
لا تزال هذه النخب تتسلّح بالتصّور التمثيلي العتيق المرتبط بنموذج الإعلام التقليدي العمودي، تصوّرا يقوم على فكرة أن المثقف "العضوي" والسياسي "الثوري" هما لسان حال الجماهير الصامتة يعبران عن وعيها لأنهما مرتبطان عضويا بها. فالسياسي و المثقف هنا يمثلان الشعب ولا يحتاجان إلى تكليف ما ليصبحا ترجمان مصالحه الاجتماعية والاقتصادية وقيمه ومشاعره القومية والاجتماعية. ولهذا تسمع في بعض الخطابات صدى الأنساق الإيديولوجية السلطوية المحضة تجاهد للبقاء في عالم جديد تراجع فيه نموذج التمثيل لصالح نموذج التعبير المتاح للجميع.
هل تعي الخطابات السياسية المرتبطة بالإيديولوجيات الشمولية أن الديمقراطية لا يمكن اختزالها في الفعل الانتخابي بل هي حالة اجتماعية وثقافية وتواصلية تعبّر عنها الفضاءات الافتراضية بشكل وفيّ ؟. ففي هذه الفضاءات لا يحتاج التونسيون إلى من يتحدّث باسمهم ولا إلى من يدّعي أنه يجسّدهم وحتى الرموز التي يناصرونها فهي رموز لا يمكن أن تكون مطلقة. وعلى هذا النحو فإن مثال "بورقيبة الافتراضي" يمثل تكذيبا صريحا لخطاب سائد لبعض النخب السياسية والثقافية لا تزال تحت تأثير وهم تجسيد الشعب كلّه.
إن الميديا الجديدة وفضاءاتها تجرح النرجسيات الإيديولوجية التي تتمثل التونسيين كتلة متجانسة متناغمة تنظر إلى أفق واحد. ففي فضاء الفايسبوك يتجلى التونسيون مختلفين ومتعدّدين ومنقسمين لا يمكن اختزالهم في صورة نمطية واحدة. وتبدو تونس فضاء متعدّد الأصوات لا يمكن أن يمثّلها صوتا واحدا. هكذا يسمح الفايسبوك برسم صورة "فسيفسائية" للمجتمع تتيح له النظر إلى نفسه عبر أفاق متعددة. إن التعددية الافتراضية تسفيه لكل الرؤى الشمولية.
إن ما يتكوّن الآن إذن ليس فضاء سياسيا جديدا ديمقراطيا تنافسيا ومتنوّعا فحسب لكن أيضا مجالا عموميا منفتحا ومتعددا فقد فيه المثقف والسياسي سلطة الكلام باسم الشعب. ما يجب على الخطاب السياسي والثقافي أن يعيه هو هذا التغيير الحاسم أي ظهور هذا المجال الجديد الضروري للديمقراطية على غرار الآليات الانتخابية، مجال نتجلى فيه بعضنا لبعض في إطار التنوع، بالرغم من الأشكال العدائية التي يتخذها أحيانا. ولعلّ الشرط الأول للاعتراف بهذا المجال العمومي هو القبول بهذا التنوّع كحالة طبيعيّة للمجتمع التونسي وليس مرضا أو مؤامرة.... أو حالة عرضية ستزول لا محالة.
لا تزال هذه النخب تتسلّح بالتصّور التمثيلي العتيق المرتبط بنموذج الإعلام التقليدي العمودي، تصوّرا يقوم على فكرة أن المثقف "العضوي" والسياسي "الثوري" هما لسان حال الجماهير الصامتة يعبران عن وعيها لأنهما مرتبطان عضويا بها. فالسياسي و المثقف هنا يمثلان الشعب ولا يحتاجان إلى تكليف ما ليصبحا ترجمان مصالحه الاجتماعية والاقتصادية وقيمه ومشاعره القومية والاجتماعية. ولهذا تسمع في بعض الخطابات صدى الأنساق الإيديولوجية السلطوية المحضة تجاهد للبقاء في عالم جديد تراجع فيه نموذج التمثيل لصالح نموذج التعبير المتاح للجميع.
هل تعي الخطابات السياسية المرتبطة بالإيديولوجيات الشمولية أن الديمقراطية لا يمكن اختزالها في الفعل الانتخابي بل هي حالة اجتماعية وثقافية وتواصلية تعبّر عنها الفضاءات الافتراضية بشكل وفيّ ؟. ففي هذه الفضاءات لا يحتاج التونسيون إلى من يتحدّث باسمهم ولا إلى من يدّعي أنه يجسّدهم وحتى الرموز التي يناصرونها فهي رموز لا يمكن أن تكون مطلقة. وعلى هذا النحو فإن مثال "بورقيبة الافتراضي" يمثل تكذيبا صريحا لخطاب سائد لبعض النخب السياسية والثقافية لا تزال تحت تأثير وهم تجسيد الشعب كلّه.
إن الميديا الجديدة وفضاءاتها تجرح النرجسيات الإيديولوجية التي تتمثل التونسيين كتلة متجانسة متناغمة تنظر إلى أفق واحد. ففي فضاء الفايسبوك يتجلى التونسيون مختلفين ومتعدّدين ومنقسمين لا يمكن اختزالهم في صورة نمطية واحدة. وتبدو تونس فضاء متعدّد الأصوات لا يمكن أن يمثّلها صوتا واحدا. هكذا يسمح الفايسبوك برسم صورة "فسيفسائية" للمجتمع تتيح له النظر إلى نفسه عبر أفاق متعددة. إن التعددية الافتراضية تسفيه لكل الرؤى الشمولية.
إن ما يتكوّن الآن إذن ليس فضاء سياسيا جديدا ديمقراطيا تنافسيا ومتنوّعا فحسب لكن أيضا مجالا عموميا منفتحا ومتعددا فقد فيه المثقف والسياسي سلطة الكلام باسم الشعب. ما يجب على الخطاب السياسي والثقافي أن يعيه هو هذا التغيير الحاسم أي ظهور هذا المجال الجديد الضروري للديمقراطية على غرار الآليات الانتخابية، مجال نتجلى فيه بعضنا لبعض في إطار التنوع، بالرغم من الأشكال العدائية التي يتخذها أحيانا. ولعلّ الشرط الأول للاعتراف بهذا المجال العمومي هو القبول بهذا التنوّع كحالة طبيعيّة للمجتمع التونسي وليس مرضا أو مؤامرة.... أو حالة عرضية ستزول لا محالة.
0 commentaires:
Enregistrer un commentaire